قَضَت ساعاتٍ طويلة و ثقيلةً تركض تلهَث كأنَّ عقاربَ الأيام تلحقُها وتترَقَّب خُلوَتها لتَنقَضَّ عليها
رَمَقَت أخيراً صُندوقَ بريدٍ أَمامَ منزِلَ جَدَّتها
رَمَت بأَظرُفِها بِكُلِّ ما أوتِيَت مِن رُعبٍ و فَزَع داخِلَ الصندق، أحمراً صَدِئاً مُتَعَطِّشاً للأوراق
صَرَخَت : جدتي!! حتى كادَت أحبالها الصوتية تتمزَّق وتَنهَرُها كُفّي
أَلقَت بجسَدِها الوهِن الهَشّ في حضيضِ الأسى
َغابَت هِيَ ، فَ عقاربَ الأيام
نَهَضَت بَعدما تَأَكَّدَت أنَّ الأمانَ يحتَضِنَها مِن كُلِّ زاويةً، و أنَّ الأسوارَ بَدَأَت تَنغَرِس في كُلِّ رِقعةً على أرضِها
لا مُتَرَصِّد
لا شقاء
لا عقارِبَ ولا أياماً تنتظرها لتَتََّخِذَ ثمةَ شيء
تَمتَدّ لَها راحَةَ يَدٍ مُرتَعِشة ، بالكاد تحمِل نفسها، تُثقِلُها الأيام .. وخاتَماً ذهبيّاً عريضاً، يحتضن زُمُرُّدةٍ يكتَسيها الخَضَار كأنَّ بساتينَ العالمَ بَرَمَّتها تُساوِرَ إصبعها
تَمَسَّكَت بِها وَحَمَلَت نَفسَها بِنَفسِها ، حتى لا تُتْعِب كَفَّ جدَّتها
ولكن يَكفي بأنَّها تَظاهَرَت بذلك على الأقل
“لماذا زَجَرتِني ؟ مالذي يَجري؟”
لا شيء جدتي”
“تركتُ لَكِ سِرّاً هُناك” (مُشيرة إلى صندوق البريد )
“ياه! لو تُصبِح هذهِ عادَتُكِ ليتَ الرسائِلَ مِنكِ تَتَدافَع وَ تُثقِلَ هذا الصندوق
انظري كم هُوَ صَدِئاً تلتهمُهُ السنين وتهويدات النسيان، ينقُصهُ الكثير
فَكَّرتُ مليّاً بِإزالَتهِ، فَأُفَضِّل عَدَم رؤية الشيء بأكملهِ من أن أراهُ خالٍ من الكلماتِ والأحرُف
خالٍ منَ الذكرياتِ والحُبِّ وتلك العواطف الجيّاشة بين الحين والأخرى
أياً كان”
“جدتي.. خِلتُ أنني لن أعود، أن تَختَطِفُني عَقارِبَ الأيامِ وَلَن أعود لِعَتَبةِ بابَكِ الدافئة هذهِ
خِفتُ وارتَعَبتُ من فِكرةِ البُعد فانتعلتُ الفُرَص
فَلتَفتَحي أظرفي”
تُمسِك جَدَّتها وَتمضيان مقتربتان من الصندوقِ بِمِترَينِ وعِناق
تحمل الجدة الأظرُف و تَصطَحِب حَفيدَتَها لغرفةِ المَعيشة التي تَكادُ تَنفَجِر مِن رائِحَةِ الحساءِ والقهوة
تجلس الجدة على كُرسيها المُخمَليّ المُفَضَّل، أَحمَرَ اللون، مَغروساً بأحجارٍ ذهبيّة في أماكِنَ مُتَفرّقة، ووِسادَةِ تَكادُ تَميل للبُنّيّ لكثرَةِ احتكاكَها بِظَهرِها اللَّيِّن المُحَدَّب
تَتَّخِذَ الحفيدة رُكبَتَيّ جدتها وِسادةً لها، فَلا مكاناً في العالَمِ بِرِمَّتهِ يسعهُ أن يكونَ بهذا الدِّفءِ والأمان
..يتبع